ثقافة رواية "الطلياني" لشكرى المبخوت: قراءة التاريخ بمنظور روائي
لم يتخلّ شكرى مبخوت على صفة الناقد في روايته الأولى "الطليانى" وذلك بوضعه في محك النقد التجربة اليسارية التونسية، إذ لم يكتب دراسة موضوعية تحليلية وانما اختار لهذا الموضوع لبوس الرواية وفق مقولة " الرواية هي ام الحقيقة الانسانية العميقة".
يسرد لنا شكري المبخوت عن طريق سارد صديق الشخصية المحورية وهوما يبرّر معرفة الكثير من التفاصيل عنه "وفي هذا حكايات سمعتها من عبد الناصر وبعضها الآخر منقول عنه بسند صحيح وبعضها الثالث عرفتها على سبيل الصدفة".
تدور احداث الرواية في فترة زمنية محددة أواخر حكم برقيبة وأوائل حكم بن علي، إذ تبدأ بمشهد عنيف وغير مبرر من عبد الناصر (الطليانى) وذلك بضرب الإمام علالة ضربا مبرحا يوم جنازة والده الحاج محمود، وهو موقف متهوّر وغير مشرّف أدانه كل الحاضرين: لماذا قام عبد الناصر بهذا الفعل الشنيع؟ سؤال مؤجل الى آخر الرواية لكن ينفتح على احتمالات متعددة إذ يبقى هذا السؤال والاجابة عليه الخيط الذي يتابعه القارئ لمعرفة الحقيقة.
يفتح شكرى مبخوت أبواب الرواية على مصراعيها ليدخلنا الى عالم عبد الناصر وهو شخصية محورية لقبت بالطليانى لوسامته غير العادية، منحدر من عائلة بورجوازية، يقطن احدى ضواحى العاصمة، له اخ اكبر صلاح الدين مثقف وناجح في حياته يقطن بسويسرا وهو متخصص في الاقتصاد العالمى يمثل صلاح الدين الممول المادى في اغلب فترات حياة الطليانى ورغم الاختلاف الايديولوجى بينهما إلا انه يقدر فيه ذكاءه وحماسته.
يختار الطليانى الدراسة بكلية الحقوق أين يُعرف بجرأته وفصاحته ويترأس احدى قوائم الحزب الشيوعى التونسي فهو يساري متطرف. ومن خلال شخصية الطلياني، يُدخلنا شكرى مبخوت الى عالم الجامعة التونسية وما يعيشه الحزب اليسارى من تخبطات وانقسامات لأسباب تافهة. ثمّ يتعرف على زينة الطالبة في كلية الاداب قسم فلسفة وهي فتاة جميلة ذكية ذات شخصية قوية واثقة صريحة.
وقد طُلِب من الطليانى تصفيتها لانها كانت تنقد ما تسميه بالوعي الطلابي البائس والحركات الفاشية ذات المشروع الدينى الاستبدادي واليسار ايضا بمركزيته المفرطة وابتعاده عن عفوية الحركة والاكتفاء بقوالب جاهزة حول نمط الانتاج في المجتمع والتعويل على تحليلات لينين وماوتسي تونغ حول الواقعين الروسي والصينى واسقاطهما على الواقع التونسي. "لستم مختلفين عنهم (اي الاسلاميين)، فلكلّ جهله المقدس واصوله الكاذبة" تقول زينة.
تعيش الجامعات في تلك الفترة أي أواخر الحكم البورقيبي مضايقات وملاحقات من الشرطة ومنع الاجتماعات (تفعيل قانون 1973 لمنع الاجتماعات غير المرخص لها) والتضييق على الاحزاب الناشطة من اسلاميين ويساريين وكل الذين لا يخدمون مصلحة المجاهد الاكبر بعد تصفيته لليوسفيين. أمّا اليسار فهو "في مهب صراع خانق النظام امامه والاسلاميون وراءه"، وحتى الهياكل النقابية فقدت سيطرتها على الامور "لقد شاخت كما شاخ بورقيبة ولكن لا احد يريد ان يعترف".الا انّ عبد الناصر كان دائما يتخلص من الدخول الى اقبية وزارة الداخلية نتيجة للوساطات التى تخدمه دون علمه.
تدخل الرواية منعرجا جديدا بارتباط عبد الناصر بزينة وتتوالى الاحداث إذ تدخل زينة معترك الحياة للتدريس ويقتل طموحها الدراسي كل حماستها السابقة. ينهي عبد الناصر الاستاذية ويتخرج من كلية الحقوق (وبذلك لن يشارك في المؤتمر الاستثنائي للاتحاد العام لطلبة تونس في 1988) وتتزامن بداية تصدع علاقته بزينة مع تحوّل في شخصيته عندما يدخل عالم الصحافة. وهنا يفتح شكرى مبخوت ملف الصحافة القذر في أواخر عهد بورقيبة: الرقابة والزيف والعهر السياسي الذى كان يمارس في هذا المجال لتبييض السلطة وينخرط عبد الناصر في هذا المسار ليصبح اهم صحفي في جريدة دستورية تنطق بإسم الحكومة يترأسها عبد الحميد الشخصية التى تصبح اقرب المقربين لعبد الناصر.
بموت امّ زينة وهي الرابط الوحيد الذي كان يربطها بقريتها في الشمال الغربي، يموت برقيبة معنويا ويحصل الانقلاب يوم 7 نوفمبر على يد وزير الداخلية بن علي، انقلاب سلمي يفتح صفحات جديدة في التاريخ التونسي إذ ينقسم التونسيون بين متفائل ومتشائم. غير أنّ عديد الأطراف حتى الاحزاب اليسارية التى فقدت بريقها وقدرتها على التعبئة والاقناع بسبب الزحف الاسلامي وسقوط الشيوعية 1986 و1990 انخرطت في تصوّر بن علي بامكانية اقامة تعددية دون الاسلاميين. ومع اجهاض زينة لحملها، تُجهض احلام التونسيين بعودة الديكاتورية من جديد مع بن علي وملاحقة المعارضين وغيرها وتزييف الانتخابات سنة 1989.
بعد طلاق عبد الناصر من زينة بعد سنتين من الزواج او من الارتباط، يدخل الطلياني رغم نجاحه في عمله كمراسل لجريدة اجنبية مرحلة العبثية والبوهيمية، ينتقل من جسد الى جسد ويوغل في عالم تٌقام فيه السهرات لرجال السياسة حيث التفسخ الاخلاقى والعهر "عالم متعفن مليئ بالخيانات والنداءات والاطماع والحقارات والسفالات".
بتواطئ عبد الناصر مع المستجدات الجديدة، يعيش البطل التناقض بين مبادئه التى كان يعتنقها والحياة الجديدة التى يعيشها "لأننى اعتدت ان اعيش منذ صغرى على ان تكون لى حياة مزدوجة ". وبتعرفه على ريم الشخصية النسائية بعد جنينة وانجيلكا وبعد نجلاء صديقة زينة يصل بنا شكرى مبخوت الى الحدث القادح الذي سيرجعنا للسؤال الاول: لماذا ضرب عبد الناصر الإمام علالة او في سؤال ضمنى لماذا لم تنجح النخب اليسارية في احتواء المواطن التونسي؟ ولماذا لم تنجح في مشروعها الاجتماعي والسياسي؟ فيُسَِر لصديقه السارد انه تعرض للاعتداء على براءته من طرف ذاك الإمام العاجز. ومثلت هذه الحادثة شرخا كبيرا في حياته "الكأس كلّها مهشمة منذ البدء ولم اقدر على ٍرأب صدعها وان اوهمت نفسي بقدرتي على ذلك ".
لئن قدّم علي مصباح في كتاب "حارة السفهاء" قراءة ساخرة لعهد بن علي، فإنّ شكرى مبخوت قدّم قراءة روائية رمزية للشتات اليسارى التونسي. ولعلّ خروج هاذين النصين هو من مأثور ثورة 2011 التى قامت اساسا على مطالب يسارية خبز شغل كرامة وطنية. الا ان المتأمل في المشهد السياسي التونسي يرى ان الاستقطاب الثنائي عاد الى ما كان عليه في نهاية الثمانينات وبداية التسعينات بين اسلاميين ودستوريين وبقي اليسار هامشيا بعيدا عن المواطن البسيط لا يتكلم لغته ولا يعبر عن مشاكله. وهذا ما وضّح شكرى المبخوت اسبابه من خلال رواية "الطلياني" التى كانت انعكاسا واضحا للحاضر.
إبتسام القشوري